الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

حول الالتباس في معنى الديمقراطية


ما الذي يجعل مفهوم “الديمقراطية” عصيّا على الفهم بالرغم من وضوح أصله اللغوي، وبالرغم من أنه يحظى بقبول عام بين التيارات السياسية الفاعلة كافة، وبالرغم من أنه من أكثر المفاهيم السياسية شيوعاً بين الناس عامة؟ سألت نفسي هذا السؤال بعد أن قرأت منذ أيام تصريحا لإحدى النائبات الفاضلات تعرب من خلاله عن “استغرابها من اعتقاد الكثير من نوابنا الأفاضل، بكل أسف، أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية”!
إن ما يثير الاستغراب حقا هو أن يخرج مثل هذا التصريح من أكاديمية متخصصة تحديداً في الفلسفة السياسية، فإذا كان معنى الديمقراطية ملتبساً عند أستاذة الفلسفة السياسية، فماذا عسانا أن نقول عن أولئك من غير ذوي الاختصاص، فضلاً عن أولئك من غير المتعلمين؟
الديمقراطية تعني اصطلاحياً حكم الشعب، وتعني عملياً حكم الأغلبية، ذلك أن الشعب هو مجموع أفراده، وفرصة إجماع أفراد الشعب جميعهم على قرار أقل بكثير من فرصة إجماع أغلبهم على القرار نفسه، مما يعني أن الديمقراطية هي عمليا حكم الأغلبية. إذن، ما الذي أثار استغراب النائبة الفاضلة تحديداً؟ لنلق نظرة على معنى الديمقراطية بالنسبة إليها.
تقول النائبة الفاضلة إن “النظام الديمقراطي يقوم بالأساس على حفظ حقوق الأقلية والدفاع عن حقوق وحريات الأفراد بكل أطيافهم…”! لا أدري من أين استدلت أستاذة الفلسفة السياسية على مفهوم الديمقراطية هذا، فليس من بين ثنايا المفهوم أي إشارة إلى حقوق الأقلية أو الدفاع عن حقوق الأفراد وحرياتهم، أضف إلى ذلك أن القبول بهذا المفهوم المغلوط للنظام الديمقراطي يتعارض مع حقيقة أن أثينا القديمة شهدت في حقبة من تاريخها نظاماً سياسياً قائما على ديمقراطية مباشرة لا تقيم وزناً للحريات الفردية أو حقوق الأقلية، كما يتعارض أيضاً مع حقيقة أن أوروبا شهدت بين الحربين العالميتين قيام أنظمة دكتاتورية على أساس ديمقراطي.
إن ديمقراطية أي قرار لا تضمن صوابه، فضلاً عن عدالته، لأن القرار الديمقراطي يعتمد فقط على عدد الأصوات، فلو اتخذ ثلاثة أشخاص قراراً بأغلبية عدد الأصوات يقضي بدفن الشخص الثالث حياً، فإن هذا القرار، بالرغم من وحشيته السافرة، قرار ديمقراطي بامتياز! ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن الديمقراطية، بالرغم من وصفها بأنها نقيضة لدكتاتورية الفرد، فإنها ليست نقيضة للدكتاتورية بكل أشكالها، فالديمقراطية التي لا يكبح جماحها سوى إرادة الأغلبية ليست سوى وجه آخر من وجوه الدكتاتورية.
سبق أن أشرت في مقال سابق إلى حقيقة أن الديمقراطية مثل الدكتاتورية، فكلاهما يعبر عن طريقة معينة في كيفية اتخاذ القرار، أما صواب القرار ذاته ومدى عدالته فيحددهما الدستور، وعندما لا يحظى الدستور بالقدر الأدنى من الاحترام، فإن مشروعية أي قانون تخضع إلى المزاج الفردي لدكتاتور أو إلى المزاج الجماعي لأغلبية دكتاتورية.
القضايا العادلة لا تُكسب على يديّ محام فاشل، وقضية الدفاع عن الحريات وحقوق الأقليات قضية عادلة بلا شك، لكن الدفاع عنها من خلال مفهوم مغلوط عن الديمقراطية يؤدي حتماً إلى فشلها. كان الأجدر بالنائبة الفاضلة أن تكتفي بالإشارة إلى تفعيل الدستور، لا أن تقدم مفهوماً مغلوطاً عن معنى الديمقراطية، فالدستور لا يحمينا فقط من استبداد السلطة الحاكمة عن طريق ضمان حقوقنا السياسية، بل إنه يحمينا أيضاً من استبداد الأغلبية من خلال ضمان حقوقنا المدنية.
إن أكثر أداة غير ديمقراطية هي الدستور، وهذه مفارقة، ولكنها مفارقة تنطوي على حقيقة مهمة، فالدستور لا يحترم ولا يقر رأي أغلبية تهضم أبسط الحقوق الأساسية لمواطن واحد، فضلاً عن أقلية.

ليست هناك تعليقات: