الأربعاء، 29 يوليو 2009

نظرات في كتاب الحرية أو الطوفان 3

سألني أحد الأصدقاء مرة عن أقرب مواد الدستور إلى قلبي، فأجبت من دون تردد «المادة 174، لأنها تجيز مبدأ التنقيح لدستور البلاد، وبغض النظر عن شكل هذا التنقيح، فإن هذا المبدأ ينفي أي شكل من أشكال القدسية لأداة الحكم، وهي الدستور!». عندما ظهر كتاب «العقد الاجتماعي» في عام 1762، اضطر «روسو» إلى الهرب من فرنسا، والسبب الأولي في ذلك يرجع إلى أن الكتاب يدحض «الحق الإلهي» للملوك في البقاء في السلطة! عندما يكون الحاكم «مقدساً»، يصعب عندئذ انتقاده ومحاسبته، وبالمثل، عندما تكون «أداة الحكم» مقدسة، لانملك عندها الحق في تعديلها أو تنقيحها. هناك، إذا، نوعان من قدسية السلطة: قدسية الحاكم وقدسية النص، ويبدو لي أن اعتراض الدكتور «حاكم المطيري» على «قدسية الحاكم» هو الذي أثار خصومه السلفيين، كما أن إصراره على الاحتكام إلى «نصوص مقدسة» يقف وراء ردة الفعل لدى خصومه العلمانيين!
يرى الكاتب أن «حرية إبداء الرأي ونقد السلطة» من الأمور التي تكفلها الشريعة الإسلامية (انظر صفحة 101)، ويورد الكاتب أمثلة كثيرة ضمن مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المنزل للتدليل على مشروعية حرية التعبير ونقد السلطة السياسية. هذا رأي سديد لا أملك الاعتراض عليه، ولكن هناك فرق كبير بين حرية الفرد في نقد «السلطة» وبين حريته في نقد «أداة السلطة»، فنظام الحكم الذي يروج له الكاتب يجيز انتقاد الحاكم، لكنه لايسمح بانتقاد دستور الدولة الإسلامية! بل إن الكاتب يتبنى رأي الشيخ «مصطفى صبري» ويحذر من «خطورة مبدأ فصل الدين عن السياسة»، ذلك أن العلمانية «كفر صريح وردّة» (انظر صفحة 313)، كما أن فكرة إقصاء الدين عن السياسة هي بمنزلة «إعلان حرب من الحكومة على الإسلام» (انظر صفحة 321). هذا يعني أنه في حالة إقامة دولة إسلامية، فإن الأحزاب العلمانية تصبح أحزابا محظورة لتبنيها برامج تتصادم مع دستور الدولة! الأغرب من ذلك كله، هو أن الكاتب (انظر صفحة 344) يتبنى رأي القاضي الشرعي «أحمد شاكر» وكبار علماء الفكر السلفي حول ضرورة دخول الأحزاب الإسلامية المعترك السياسي بهدف الانقلاب على القوانين الوضعية واستبدالها بالشريعة الإسلامية!
أعترف بأني لا أجد فرقاً كبيرًا بين الدكتاتوريات الغربية التي جسدت فلسفات «روسو» و«هيغل» و«نيتشه» والتيارات والأحزاب الإسلامية في الوطن العربي، فكلاهما يتخذ من الديموقراطية مطية للوصول إلى السلطة ثم الانقلاب على النظام الديموقراطي نفسه! لقد وصل «موسوليني» و«هتلر» إلى السلطة عن طريق الديموقراطية، ثم تحولت الديموقراطية إلى فاشيّة في إيطاليا، ونازيّة في ألمانيا! انقلب «موسوليني» على البرلمان وقوانين الدولة وقام باغتيال خصومه السياسيين، وفعل «هتلر» الشيء نفسه في ألمانيا! هل تختلف هذه الصورة عن براغماتية «الإسلاميين الجدد» وتعامل التيارات الإسلامية مع مفهوم الديموقراطية؟ من يقرأ كتاب «الحرية أو الطوفان» ليس بوسعه الإجابة عن هذا السؤال بالنفي!
يشير الدكتور «حاكم المطيري» إشارة سريعة إلى صاحب كتاب «العقد الاجتماعي» (انظر صفحة 16)، وهي إشارة جاءت في سياق إثبات أهمية وجود عقد بيعة بين الأمة والإمام، ولكن على الدكتور أن يكون أكثر حذراً حينما يستشهد بأفكار «جون جاك روسو»، وعلينا جميعاً أن ننتبه إلى خطورة هذه الأفكار ودورها في جلب الدمار إلى أوروبا فيما بعد، ذلك أن «روسو» يرى أن «الفرد عندما يهب نفسه للجميع، فإنه لا يهب نفسه لأي أحد» (انظر Du Contrat Social ، الكتاب الأول، الفصل السادس)، وهو رأي يدعو صراحة إلى إخضاع إرادة الفرد لـ«الإرادة العامة»، وهي إرادة صائبة على طول الخط كما يرى «روسو»! ولكن هل كانت «الإرادة العامة» صائبة عندما أمرت بقتل «سقراط»، وحرق «برونو»، وفرض الإقامة الجبرية على «جاليليو»؟ ثم من يملك الحق في التحدث باسم «الإرادة العامة»؟ ألم ينطق كل من «هتلر» و«موسوليني» و«ستالين» باسم الإرادة العامة؟!
إذا كان مفهوم «الإرادة العامة» يمثل الإطار الفكري التي نشأت من خلاله الدكتاتوريات الغربية الحديثة، فإن مفهوم «إرادة الأمة» يشكل الأساس الذي تستند إليه الحركات الإسلامية في الوصول إلى السلطة. سأحاول أن أبين وجه التشابه بين هذين المفهومين، وأثرهما في انتهاك حقوق الفرد المدنية، وهذا هو موضوعنا في الحلقة الأخيرة من هذه النظرات!
يتبع،،،

ليست هناك تعليقات: