الأربعاء، 29 يوليو 2009

الأغلبية الصامتة... ولن نسكت!

أول استخدام لتعبير «الأغلبية الصامتة» ورد في إلياذة «هوميروس»، والمعنى المراد منه هو «الأموات»، إذ جاء في سياق وصف القتلى من الجنود في حرب طروادة. لست أخفي إعجابي الشديد بهذا الوصف الدقيق للأموات، فهم فعلاً أغلبية صامتة، ذلك أن عددهم يفوق بكثير عدد الأحياء، وهم أيضا لا ينبسون ببنت شفة! عندما يكون الأموات هم الأغلبية، يسهل علينا نحن الأحياء الحديث نيابة عنهم، ومهما وضعنا في أفواههم ما لم ينطقوا به، فإننا سنظل مطمئنين إلى استحالة سماع صرخة احتجاج يدوّي صداها أرجاء القبور! هنا يكمن منبع كل سلطة تعتمد على الماضي في حكم الحاضر، وعلى النصوص في حكم الشخوص!
الرئيس الأميركي الأسبق «ريتشارد نيكسون» قام باستيراد مصطلح «الأغلبية الصامتة» من عالم الأموات واستثماره في عالم الأحياء، فعندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع احتجاجاً على الحرب في فيتنام، ألقى الرئيس خطاباً يؤكد من خلاله أن «الأغلبية الصامتة» من الشعب الأميركي تقف إلى جانب استمرار الحرب في فيتنام! تهافت الحجة التي استند عليها «نيكسون» أوضح من أن يحتاج إلى شرح، فعدم التظاهر ضد استمرار الحرب لا يعني بالضرورة التأييد لاستمرارها، ورغم ذلك مازال الاستشهاد برأي «الأغلبية الصامتة» حول أي قضية عامة عملة رائجة في عالم السياسة منذ أيام «نيكسون» إلى وقتنا الحاضر!
أتفهم وجود «أغلبية صامتة» في نظام شمولي، فالديكتاتور لا يحب سماع صوت رعيته إلا عندما تهتف له، ولكن ما هو المسوغ المنطقي لوجود مثل هذه الأغلبية في نظام ديموقراطي؟ السؤال نفسه بصيغة أخرى: كيف نفسر هذا التنافر المنطقي بين الديموقراطية كتجسيد لرأي الأغلبية وبين مفهوم الأغلبية الصامتة؟ لا أملك إجابة شافية عن هذا السؤال، ولكن يبدو أن «الاستفتاء» هو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها اختبار مدى صحة الاستشهاد برأي الأغلبية، ورغم الاعتراف بوجود صعوبة عملية في استخدام هذه الأداة، فإن أحداً لن يتورع عن الحديث نيابة عن «الأغلبية الصامتة» إن هي استمرت في رفضها الخروج عن صمتها!
اعتدنا سماع مقولة «لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه»، ولكن هل لكل إنسان الحق في عدم التعبير عن رأيه؟ من الصعب أن تكون «لا» هي إجابة القارئ، إلا إذا كان محققاً أو وكيل نيابة في دولة قمعية، ولكن إذا كانت الإجابة هي «نعم»، أي إذا كان لي الحق في عدم التعبير عن رأيي، ثم اخترت استخدام هذا الحق، فعندها يصبح من حق الآخرين أيضا الحديث نيابة عني! في الحياة الخاصة، يكون الصمت في بعض الأحيان نوعاً من الحكمة، ولكنه في الحياة العامة ليس إلا انتحاراً!
عندما تكون هناك دعوة الى التظاهر حول مسألة تمس الجميع، ثم أختار الجلوس في البيت، فإني بخياري هذا قد وهبت الحق للسلطة السياسية في الحديث نيابة عني، ذلك أن خيار الجلوس في البيت يجعلني تلقائياً في خانة «الأغلبية الصامتة»، وهي أغلبية لاتسكن إلا القبور، على حد تعبير «هوميروس»!
ملاحظة أخيرة: لن نسكت!

ليست هناك تعليقات: