الأربعاء، 29 يوليو 2009

ثرثرة عديمة الفائدة!


أعداء مفهوم «التنظير» يستندون عادة إلى حجة مفادها أن التطبيق العملي أهم من التفكير النظري، ويبدو أن القائمين على مشروع إصلاح التعليم يميلون إلى تصديق هذه الحجة الواهية!

مصطلح «التنظير» ينتمي إلى فئة المصطلحات التي لا تحظى بشعبية كبيرة في الذهنية العربية، والاستعمال الدارج لهذا المصطلح يأتي عادة بمعنى الثرثرة العديمة الفائدة، وهذه ظاهرة ليست جديدة، فتاريخ مناصبة العداء للفلسفة والتفكير المنطقي يمتد إلى أكثر من 1400 سنة، ومَن تعوّد على شيء شاب عليه! أريد من خلال هذا المقال أن أتقمص دور «محامي الشيطان» لأدافع عن هذه «الثرثرة العديمة الفائدة».
دعنا أولا نتفق على المفهوم، فكلمة «تنظير» تشير إلى نشاط ذهني يساهم في وضع مجموعة من الأفكار في نسق منطقي، والوظيفة التفسيرية هي إحدى وظائف هذا النشاط الذهني. لنفرض أن أحد المنظّرين السياسيين أراد أن يفسر لنا ظاهرة شراء الأصوات الانتخابية، ولنفرض أنه قدم لنا تفسيره على النحو التالي: «بما أن لقمة العيش أهم من الإرادة السياسية في البلاد الفقيرة، وبما أن الكويت بلد فقير نسبياً، إذن من الطبيعي أن تنتشر ظاهرة شراء الأصوات في بلد مثل الكويت»! الآن، إذا أردنا تقييم هذا النوع من «التنظير السياسي» بطريقة موضوعية، فبوسعنا أن نشير إلى أن الاستنتاج يستند إلى فرضية خاطئة، فالكويت لا يمكن تصنيفها على أنها بلد فقير نسبياً، لكن إذا أردنا أن نكون لاموضوعيين في تقييمنا، فبإمكاننا أن نسمي هذا التفسير «ثرثرة عديمة الفائدة»! الفرق بين الحالتين واضح، فالتقييم الموضوعي لأي «تنظير» مهما بلغت رداءته يجبرنا على القيام بنشاط ذهني مضاد، أما التقييم المسبق واللاموضوعي يدفعنا إلى الخمول الذهني!
أعداء مفهوم «التنظير» يستندون عادة إلى حجة مفادها أن التطبيق العملي أهم من التفكير النظري، ويبدو أن القائمين على مشروع إصلاح التعليم يميلون إلى تصديق هذه الحجة الواهية! لست أفهم كيف يكون هناك تطبيق عملي فعّال من دون وجود مسبق لنظرية ناجحة، إذ لولا وجود نظرية ناجحة مثل «نظرية الكَّم»، مثلا، لما استطعنا التمتع بأغلب المخترعات العلمية التي نستخدمها في حياتنا اليومية! ثم إن «التنظير» فيه تأكيدُ على إنسانيتنا وتميّزٌ عن بقية الكائنات الحية، فالاهتمام بالجانب النظري يعكس فضولاً في حب المعرفة، وهو فضول يقتصر على فصيلة الإنسان فقط، بينما الحرص على الجانب العملي ينم عن ولع ٍفي جني الفائدة، والحرص على جني الفائدة تشترك فيه جميع الكائنات الحية! عندما تكون الفائدة المادية هي المعيار الأوحد، كيف لا تصبح عادة الاستهلاك هي السائدة، وكيف لا يصبح التنظير مجرد «ثرثرة عديمة الفائدة»؟! قبل سنة أو أكثر، سألني أحد الزملاء حول رأيي في أحد نواب مجلس الأمة، فزميلي كان يؤمن إيماناً قاطعاً بأن ذلك النائب منافق من الطراز الممتاز، وكان يود معرفة ما إذا كنت أشاطره الرأي، فأجبته قائلا: «دعنا نتفق أولا على شروط النفاق، ثم نرى إن كان هذا النائب يستوفي هذه الشروط أم لا». أعتقد أن النقاش توقف عند هذا الحد، إذ فوجئت بزميلي ينفجر غاضباً ومهدداً بعبارات مثل «لا تنظّر على راسي» و«لا تتفلسف»! الحق أني لم أستغرب من سماع هذا النوع من العبارات الجاهزة، فلغتنا الدارجة تضع «التنظير» و«التفلسف» ضمن قائمة النشاطات السلبية وربما المحظورة، ولكن ما أدهشني فعلا هو هذا الغضب الذي يصل إلى حد الإدانة لحقي في استخدام عقلي! أعلم أن زميلي أراد إجابة سريعة، إما نعم وإما لا، ولكن كيف لي أن أختار من دون توضيح أسباب الاختيار، وكيف لي أن أعثر على أسباب الاختيار من دون الاستعانة بهذا النشاط الذي يسمونه ظلما وزورا «ثرثرة عديمة الفائدة»!

ليست هناك تعليقات: