الأربعاء، 8 يوليو 2009

في قفص الاتهام

يتهمني بعض الأصدقاء بأني "أغرد خارج السرب"، وأني لا أستوعب شيئا مما يدور داخل البلد لبعدي الجغرافي عنه، وأن زيارة خاطفة مرة واحدة في السنة لا تكفي لتكوين صورة حقيقية عن المجتمع الذي نعيش فيه! صحة هذه التهمة تعتمد على الافتراض التالي: فهم الأحداث مرهون بمعايشتها عن قرب· إذا استطعت إثبات عدم صحة هذا الافتراض، فإن التهمة ستسقط من تلقاء نفسها، وهذا بالضبط ما أرجو تحقيقه من خلال هذا المقال·
أولا، لو كان القرب من الأحداث شرطا ضروريا لاستيعابها، فإن كتب التاريخ ستصبح عديمة الفائدة، فالمؤرخ بعيد زمانا ومكانا عن الأحداث التي يسردها! هذا يعني أن من يدافع عن شرط القرب المكاني من الأحداث ينبغي له أيضا أن يدعو إلى إلغاء مادة التاريخ من المناهج الدراسية، فالمؤرخون ليسوا مخولين في الخوض في أحداث لم يعاصروها! أشك في قبول أصدقائي لمشروع إلغاء مادة التاريخ، فأحدهم أستاذ لهذه المادة!
ثانيا، لو شاهدت مسرحية عن طريق جهاز الفيديو ثم انتقدت الممثل الفلاني على سوء الأداء، فهل يحق لهذا الممثل أن يعترض على انتقادي بحجة أنني لم أحضر المسرحية، وإنما اكتفيت فقط بمشاهدتها مستلقيا على "كنبة" أمام جهاز التلفاز؟ هذه حجة تدل على عقلية رجعية لا تؤمن بعصر الآلة، وإذا أراد أصدقائي أن يدفعوا عن أنفسهم تهمة الرجعية، فعليهم أيضا أن يتنازلوا عن شرط القرب المكاني من الأحداث كمدخل لفهمها!
ثالثا، إذا كان فهم الأحداث مرتبط بمدى قربنا "جسديا" منها، فهذا يعني أن كتاب الصحف المحليين لا يحق لهم الخوض في أحداث عالمية تجري خارج حدود الدولة، والنتيجة الطبيعية هي أن الكاتب الصحافي سيتحول إلى مراسل صحافي، لا يحق له التحدث عن شيء إلا إذا كان على بُعد بضعة أمتار منه!
هل سقطت تهمة "التغريد خارج السرب"؟ إذا لم تسقط بعد فما زالت لدي حجة رابعة، و هي حجة أقوى مما سبقها من حجج، ولم يمنعني من ذكرها سوى قانون الرقابة السخيف (مع الاعتراف بتسامح هذا القانون، فهو قانون لا يجرّم من يصفه بالسخافة!)·

ليست هناك تعليقات: