الأربعاء، 8 يوليو 2009

زمن ولىّ وأثر باقٍ

ماذا لو لم أغادر بلدي و بقيت هناك لأتزوج و أنشئ عائلة؟ هذا هو السؤال الجوهري للبطل "جاك كامبل" في فيلم "رجل العائلة"، من بطولة "نيكولاس كيج"· قصة الفيلم باختصار تروي حكاية رجل من أهل نيويورك يحصل على وظيفة مرموقة في باريس، و رغم توسلات خطيبته بعدم الرحيل، يقرر قبول الوظيفة و يرحل تاركا خطيبته وراءه بعد أن فسخ الخطوبة· بعد ثلاث عشرة سنة، يساور البطل فضول غريب في معرفة كيف ستكون حياته لو أنه رفض الوظيفة و تزوج من خطيبته، و في صباح أحد الأيام يستيقظ البطل ليجد نفسه مع زوجة لم يتزوجها و طفلين لم ينجبهما قط! تذكرت أحداث هذا الفيلم خلال الذكرى الخامسة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، و طاف في بالي السؤال ذاته: ماذا لو لم تجرِ الأحداث بالشكل الذي جرت به؟ لنتخيل السيناريو التالي:
صباح الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001، يستيقظ الناس على خبر مهم تذيعه قنوات العالم كافة، و فحوى الخبر هو وجود تسعة عشر رجلا على قمة أحد برجي التجارة العالمي، يمسكون بلافتات عريضة تدين سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالشرق الأوسط، ثم يحاول رجال الشرطة عبر مكبرات الصوت إقناعهم بالنزول، لكنهم يرفضون بإباء رافعين من جديد لافتة عريضة كتب عليها: فلتشهد أيها الشعب الأمريكي، فبسبب ظلم حكوماتكم المتعاقبة سنلقي بأنفسنا من أعلى البرج كاحتجاج على هذا الظلم"! و ما هي إلا لحظات و إذ بأجساد تتهاوى الواحد تلو الآخر!
أعترف بأن هذا السيناريو يبدو ضعيفا و يفتقر إلى الواقعية، و ربما يعترض القارئ أيضا مؤكدا على أنه من السذاجة الاعتقاد بأن سياسة الحكومة الأمريكية ستتغير فجأة بمجرد إلقاء حفنة من الشبان بأنفسهم من أعلى البرج! لا أملك إلا أن أوافق القارئ في اعتراضه، خصوصا فيما يتعلق بالتغير الفجائي، لكن ما وقع مثل هذا السيناريو على الرأي العام؟ من الصعب إنكار إمكانية وجود تعاطف مع قضية الشبان كردة فعل على مثل هذا المنظر المروّع، ثم هل يجرؤ أحد على وصمهم بتهمة الإرهاب؟ أليسوا بفعلهم هذا يبرهنون على أن لهم نبلا يفوق نبل طياري الكاميكازي أنفسهم؟!
ربما بقيت في ذهن القارئ إشكالية واحدة، و هي قضية الانتحار و رفض الإسلام له بشكل قاطع· إذا كان الإسلام يجرّم من يزهق روحه بيديه مهما كانت الأسباب، فأنا حقيقة لا أدري ما الفرق بين السيناريو الذي قدمته و بين ما حصل فعلا على أرض الواقع· لماذا يكون أبطال السيناريو منتحرين و لصوص الطائرات شهداء؟ إزهاق المرء لروحه عن عمد ينطبق على كلتا الحالتين!
أغلب الذين قاموا بتلك الجريمة المفجعة هم ممن درسوا في الغرب لسنين عديدة، ولعل هذه الحقيقة تدفعنا إلى السؤال التالي: كيف لم يقدّر هؤلاء الشبان الآثار السلبية لهذه الفعلة الشنيعة وهم الذين خاضوا تجربة دراسية تمكنهم من فهم سيكولوجية المجتمعات التي عاشوا فيها؟ لكن يبدو أن هناك فرقاً كبيراً بين أن تعيش وسط أهل البلد و بين أن تتعايش مع أهل البلد· في كل مجتمع غربي هناك جالية مسلمة، و لست أجد وظيفة حقيقية لمثل هذه التجمعات سوى بناء جدار فاصل بين المغتربين المسلمين و بين المجتمعات التي احتضنتهم، و النتيجة هي- مع الأسف الشديد- حرمان كل وافد جديد من خوض تجربة حقيقية في مجتمع جديد· مفهوم الغربة لا يقتصر فقط على البعد الجغرافي، فكم من غريب لم يبرح مكانه وسط أهله و وطنه! إن بحث الغريب عن أشباه له يسامرهم و يحرص على الاختلاط بهم لا يدل إلا على شيء واحد: الفشل في خوض تجربة غنية من خلال الاتصال مع أهل البلد المضياف!
سبق أن ذكرت في مقال سابق أن الجانب المشرق لكل أزمة بين طرفين هو أن هذه الأزمة ربما ساعدت على تحفيز كلا الطرفين لفهم الآخر، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، امتلأت المكتبات ودور النشر الغربية بكتب تتحدث عن الإسلام وتاريخه، وتنامى أيضا عدد المؤتمرات والندوات العلمية حول هذا الشأن، لكن في المقابل ما هي ردة فعلنا نحن تجاه الآخر ومحاولة فهمه؟ هناك مسألة تثير الفضول والشفقة معا، وهي أننا مع كل أزمة لنا مع الغرب نسارع في تعريف أنفسنا وتراثنا للآخرين، متناسين أن الغرب قد قام بهذه المهمة من تلقاء نفسه، لكننا في المقابل نحجم عن تعريف الحضارة الغربية وتراثها لأفراد هذه الأمة، وإن كان ثمة تعريف فعادة ما تشوبه نظرة غير موضوعية ومتحاملة أيضا! فها هو مفهوم "العلمانية" والذي يعتبر ركيزة أساسية في النظام الغربي، لعلي لا أبالغ إن قلت إن هذا المفهوم هو أكثر المفاهيم تعرضا للتدليس وسوء الفهم في لغتنا العربية، وهو تدليس مع سبق الإصرار والترصد·
طوى التاريخ يوم الحادي عشر من سبتمبر لكن أثره باق إلى أمد طويل· هل شعر القارئ بهذه الغصة اللعينة عند وقوفه في المطارات و مشاهدة صور لأناس مطلوبين للعدالة، أناس ملامحهم هي ملامحنا و أسماؤهم هي أسماؤنا؟ إلى متى يتعيّن علينا مبادلة تلك النظرات الفاحصة و المشككة بابتسامات عريضة كدليل على البراءة؟
أجل، طوى التاريخ يوم الحادي عشر من سبتمبر لكن أثره باق إلى أمد طويل، فقد أورثنا أولئك الفتية المجانين ذلاً لا تزنه مثاقيل الجبال، و لسوف يبقى ما بقي أحمق بيننا يصفق طربا و سرورا بهذه الذكرى الأليمة!

ليست هناك تعليقات: