الأربعاء، 29 يوليو 2009

الحرية بين الشرق والغرب

لا أريد التحدث عن التفاوت في مقدار الحرية بين الشرق والغرب، فهذه مسألة تجريبية يمكن للقارئ التحقق منها بسهولة من خلال إجازة صيفية قصيرة، إنما أريد التطرق إلى اختلاف أساسي حول مفهوم «الحرية» بين الشرق والغرب، وهو اختلاف يساهم في فهم أسباب الإخفاق في قيام مجتمع مدني في أي بقعة جغرافية من المحيط إلى الخليج.
الحرية بمفهومها الغربي المعاصر تشير إلى منظومة من الحقوق المتعلقة بالفرد من حيث هو نواة للمجتمع، مثل حق الحياة وحق التعبير عن الرأي والمعتقد الديني وحق التملك، ومعظم الدساتير الغربية الحديثة تتضمن مبدأ الدفاع عن هذه الحقوق الفردية، فهي (أي الحقوق) بمنزلة الأساس الذي تقوم عليه الديموقراطيات الغربية، وهي أيضا بمنزلة المعيار الذي تقاس من خلاله مشروعية قيام أي حزب سياسي، الأمر الذي يفسر سبب حظر بعض الأحزاب الفاشية في الغرب! من هنا نستنتج أن مفهوم «الفرد» يشكل الحجر الأساس في تعريف معنى «الحرية» حسب القاموس السياسي الغربي.
الحرية بمفهومها الشرقي، وفي الثقافة العربية على وجه الخصوص، لاترتبط بالفرد بقدر ارتباطها بمجموعة من الأفراد، ذلك أن معنى الحرية لدينا يشير إلى قائمة من الحقوق المتعلقة بالأسرة أو القبيلة أو الدولة أو الدين. تمنح الثقافة العربية-الإسلامية مفهوم «الجماعة» الأولوية بالقياس إلى مفهوم «الفرد»، فجرائم الشرف تشكل مظهراً من مظاهر أولوية حقوق الأسرة على حقوق الفرد، بينما يعتبر حد الردة شكلا من أشكال أولوية حقوق الدين على حقوق الفرد! ولعل طغيان مفهوم «الجماعة» على مفهوم «الفرد» هو أحد الأسباب وراء انتشار تيارات سياسية من دون غيرها في الوطن العربي، مثل القومية والاشتراكية والإسلام السياسي، فهذه التيارات السياسية تشترك في إعلاء قيمة «الأمة» على حساب قيمة «الفرد».
عندما تسلّم «جمال عبدالناصر» الحكم في مصر، تأجلت المطالبة بحرية المواطن المصري إلى حين تحرير الأمة العربية كلها، وعندما استولى «الإمام الخميني» على السلطة في إيران، ضاعت المطالبة بتحرير المواطن الإيراني بين شعارات القضاء على بقايا الملكية وتصدير الثورة وتحرير الأمة الإسلامية بأسرها! صفة «القائد» ترتبط بالمحافظة على حرية الشعب، وصفة «الدكتاتور» تتعلق بانتهاك حرية الفرد، وعندما يقتصر مفهوم «الحرية» لدينا على الشعب من دون الفرد، يصبح من الطبيعي أن تجتمع صفتا «القائد» و«الدكتاتور» في شخص واحد! الدعوة إلى تحرير فلسطين، ومحاربة الإمبريالية والصهيونية، والحذر من الأطماع الخارجية، كلها شعارات نجحت في دفع الشعوب العربية إلى الاحتفاء بصورة «القائد» وغض النظر عن صورة «الدكتاتور»، ولكن الفهم العقيم لمعنى الحرية لدى هذه الشعوب ساهم في التسامح مع صورة «الدكتاتور» في سبيل المحافظة على صورة «القائد»!
مفهوم «الحرية الفردية» هو جوهر المجتمع المدني، فليس هناك مجتمع من دون أفراد، وليست هناك مدنية من دون حقوق فردية. بإمكاننا إنشاء وزارة كاملة تحت مسمى «وزارة حقوق الإنسان»، كما هي الحال في دولة المغرب مثلاً، ولكننا لانستطيع اتخاذ وجود مثل هذه الوزارة كدليل على ضمان الدولة لحقوق الإنسان! بالمثل، بإمكاننا إقامة المئات من منظمات المجتمع المدني، ولكننا لن نستطيع إخفاء حقيقة عدم وجود مثل هذا المجتمع! من السخف تقييم أداء منظمات المجتمع المدني من خلال حجم نشاطاتها الاجتماعية، فهذا المعيار ربما يصلح أن يكون مقياساً لمدى شعبية «ديوانية»، وأما التقييم الجاد لمنظمات المجتمع المدني فيكون من خلال معرفة مدى نجاحها في أداء وظيفتها، وهي وظيفة رقابية تهدف إلى حماية حقوق الفرد وصونها من سلطة الأسرة أو الدولة أو الدين!
ليس من العار ألا يكون للمتشرد منزل يؤويه، ولكن العار في الرفض المبدئي لفكرة المنزل! شاءت الأقدار ألا ينتمي مفهوم «المجتمع المدني» إلى ثقافتنا العربية، ولكن لا ينبغي أن تثنينا هذه الحقيقة عن المحاولة في وضع حجر الأساس لمجتمع مدني عربي يعلي من شأن الفرد وكرامته، رغم التقاليد ورغم الطقوس! ربما تطلّب بناء مثل هذا المجتمع مئات السنين، ولكن عدم المحاولة سيتطلب الدهر كله! استغرق بناء كاتدرائية «دوومو» في قلب مدينة «ميلانو» خمسة قرون، فكم من الأجيال أفنت حياتها في تشييد بناء لم تتمكن من مشاهدته، ولكن ها هي «دوومو» تقف اليوم شامخة في سماء «ميلانو»، تذكّر أجيال اليوم بإخلاص أجيال الأمس!

ليست هناك تعليقات: