الأربعاء، 8 يوليو 2009

العلم وآلية الاكتشاف

من نافلة القول أن مفهوم «الاختراع» يتعلق بأشياء لم تكن موجودة من قبل، بينما مفهوم «الاكتشاف» يرتبط بأشياء لها وجود مسبق، ولكنها لم تكن معروفة حتى لحظة الاكتشاف. لا يكفي في حالة الاكتشاف العثور على شيء لم نكن نعلم بوجوده من قبل، بل يجب أيضا معرفة ماهية هذا الشيء، وتاريخ الاكتشافات العلمية يدلل على أهمية هذا الشرط. على سبيل المثال، العالم الإيطالي «جاليليو» هو أول من شاهد كوكب «نبتون» من خلال منظاره الشهير، لكن الأمر اختلط عليه فظن أنه يشاهد نجماً، وبعد مرور قرنين من الزمان يأتي العالم الرياضي الفرنسي «لو فيريير» ليقطف ثمرة اكتشاف الكوكب! المثال الآخر يتعلق باكتشاف العالم الجديد، فعندما وصل «كولومبوس» إلى السواحل الأميركية، ظن أنه يطأ القارة الآسيوية، ثم يأتي «أميريكو فيسبوجي» ليؤكد أن هناك أرضاً شاسعة بين أوروبا وآسيا، ليخطف بذلك ثمرة الاكتشاف ويترك بصمته على العالم الجديد من خلال اسمه الأول!
قبل مجيء العالم الإغريقي الكبير «اقليدس»، كان الناس على علم بأن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة، وأن في كل مثلث قائم الزاوية يكون مربع طول الوتر مساوياً لحاصل جمع مربع كلِّ من الضلعين الباقيين، وغير ذلك من الحقائق التي توصل إليها الناس عن طريق التجربة العملية أو النشاط العقلي، ولكن عبقرية «اقليدس» تكمن في العثور على الرابط المنطقي لكل هذه الحقائق الهندسية من خلال نظام استنتاجي محكم، ولم يستلزم الأمر سوى تقديم خمس بديهيات وخمسة معطيات فقط! عظمة «نيوتن» شبيهة بعظمة «اقليدس»، فالناس لم تكن في حاجة إلى «تفاحة نيوتن» لكي يعرفوا حقيقة سقوط الأجسام على الأرض، كما أن دوران القمر حول الأرض كان إحدى الحقائق الثابتة قبل مجيء «نيوتن» بمئات السنين، ولكن عبقرية هذا العملاق تكمن في قدرته على الربط بين كلا النوعين من الحركة، حركة سقوط الأجسام نحو الأرض وحركة الدوران الدائم للقمر حول الأرض! بمعنى آخر، قوانين «نيوتن» استطاعت إثبات وجود ترابط منطقي بين قوانين «كبلر» حول حركة الأجرام السماوية، وبين قوانين «جاليليو» حول حركة الأجسام الأرضية.
لكن النظرية العلمية لا تقتصر على تقديم تفسير لظواهر طبيعية معروفة، بل تساهم في أحيان كثيرة في اكتشاف ظواهر طبيعية لم تكن معروفة من قبل، والاكتشاف وليد النظرية يمر بمراحل مختلفة، فهو يبدأ على هيئة استنتاج منطقي لمعطيات أولية، ومفهوم «التنبؤ العلمي» مرتبط بمضمون هذا الاستنتاج، أما التجربة العلمية فدورها ينحصر في التحقق من صحة النظرية عن طريق اختبار صحة التنبؤات المنبثقة عنها، وهذا يعني أن كل اكتشاف لظاهرة جديدة، بمثابة إثبات لصحة النظرية العلمية. على سبيل المثال، في عام 1832 استطاع هاميلتون من خلال نظريته حول الإشعاعات التنبؤ بوجود ظاهرة جديدة تتعلق بانكسار الضوء خلال مادة الكريستال، وقد تم فعلاً اكتشاف هذه الظاهرة بعد مرور بضعة أشهر على نظرية هاميلتون! أما المثال الأكثر شهرة فيتعلق بالنظرية النسبية العامة لأينشتاين، فمن المعروف أن أحد تنبؤات هذه النظرية يتعلق بانحراف الضوء عند مروره في المجال الجاذبي للشمس، وقد تمكن أينشتاين من حساب درجة انحراف الضوء (بعد أن أخطأ في حسابها في المرة الأولى!) واقترح أن أنسب وقت للقيام بتجربة علمية للتحقق من حساباته الرياضية، هو وقت كسوف الشمس. وبعد مرور أربع سنوات، أي في عام 1919، تمكن العالم البريطاني «إدنغتون» من إثبات صحة تنبؤ أينشتاين!
الاكتشاف الناتج عن الإطار النظري هو ثمرة علم المنطق، فكل علم جدير بهذا الاسم لا بد أن يتخد من علم المنطق أساساً له، وسنتناول في مقالات لاحقة الكيفية التي يتم من خلالها الاستفادة من علم المنطق في ميدان العلوم الطبيعية، وغرضنا من ذلك بسيط ومباشر: الاحتفاء بجمال العلم!

ليست هناك تعليقات: