الأربعاء، 8 يوليو 2009

تشويه المفاهيم الغربية


نحن في حاجة ماسة إلى رفع الظلم عن هذه المفاهيم والتعامل معها بطريقة أكثر موضوعية. الليبرالية ليست انحلالاً أخلاقياً، بل حرية مسؤولة ترتقي بالفرد وبقدراته الذاتية.
من بين المغالطات أو الحجج الواهية في علم المنطق ثمة حجة تعرف باسم straw man، ويمكن شرح آلية هذه الحجة بإيجاز على النحو التالي: عندما يتحاور «أ» مع «ب»، يعمد «أ» إلى تحوير وجهة نظر «ب» بطريقة تمكّن «أ» من انتقادها بسهولة. المثال المرئي على هذا النوع من الحجج الواهية نجده في برنامج «الاتجاه المعاكس»، والمثال المكتوب نجده في الأدبيات الإسلامية التي تتناول نقد المفاهيم الغربية! هذا المثال الأخير هو موضوعنا في هذا المقال.
نقد المفاهيم الغربية من منظور إسلامي يعتمد على آلية تشويه منظم، وهو تشويه يقود عادة إلى إحدى النتائج التالية: الرفض، أو الاحتواء، أو الرفض والاحتواء معاً. آلية التشويه في الكتابات الإسلامية نجحت في جعل مفهوم «الليبرالية» مرادفاً للانحلال الأخلاقي، ومفهوم «العلمانية» مرادفا للشرك والكفر، والنتيجة الحتمية هي الرفض القاطع لكلا المفهومين! مفهوم «الديموقراطية» كان مصيره الرفض في البداية، ولكن هناك ظروفاً موضوعية دفعت باتجاه احتواء هذا المفهوم من منظور إسلامي، فمع تزايد الضغوط الخارجية لجأت بعض الدول العربية إلى تشويه مفهوم «الديموقراطية» من خلال مفهوم «الشورى»، أما في بقية الدول العربية فإن خيار التيار الإسلامي في نبذ العنف ودخول المعترك السياسي ساهم إلى حد كبير في تشويه مفهوم «الديموقراطية» عن طريق ما يعرف بـ «أسلمة القوانين».
مفهوم «حقوق الإنسان» من منظور إسلامي ينطوي على مفارقة، فآلية التشويه في هذه الحالة تقود إلى رفض واحتواء في آنٍ واحد، ولو نظرنا إلى الأدبيات الإسلامية لوجدنا دفاعاً عن المقولتين التاليتين:
(1) حقوق الإنسان تضمنها الإسلام.
(2) حقوق الإنسان مصدرها غربي وهي غير ملزمة لنا كأمة لها ثقافة مختلفة عن الغرب.
منطقيا، بالإمكان الدفاع عن (1) أو (2)، و لكن من غير المنطقي الدفاع عن (1) و(2) في الوقت نفسه! العامل المشترك بين (1) و (2) هو تشويه مفهوم «حقوق الإنسان»، ففي (1) هناك خلط بين الحقوق والواجبات، فحقوق الإنسان التي تضمنها الإسلام، هي في حقيقة الأمر واجبات العبد، إذ إن هناك فرقاً كبيراً بين احترام الإنسان لأنه إنسان وبين احترام فئة معينة من البشر لأن الدين يأمر بذلك! نأتي الآن إلى (2) لنجد أن رفض حقوق الإنسان يستند إلى حجة مفادها أن هذه الحقوق نسبية وتختلف باختلاف المكان، وهذه حجة واهية، فعلى الرغم من أن مفهوم «حقوق الإنسان» له شهادة ميلاد غربية، فإنه يحمل قيماً تتعلق بالبشرية جمعاء. لو صحت هذه الحجة الواهية حول نسبية حقوق الإنسان، فإن الأوروبي، مثلا، سيكون معذوراً لو رفض اعتناق الإسلام بحجة أنه دين مقتصر على ثقافة شبه الجزيرة العربية!
مفهوم «العلم الحديث» يتعرض إلى آلية التشويه ذاتها، فهو يقود أيضا إلى مزيج غريب من الرفض والاحتواء، والمتأمل في الكتابات الإسلامية يجد دفاعا عن المقولتين التاليتين:
(3) القرآن الكريم يتضمن اكتشافات العلم الحديث.
(4) العلم الحديث لايصلح أن يكون مصدرا للمعرفة لأنه يتسم بالتغير وعدم الثبات.
من الجائز منطقيا الدفاع عن (3) أو (4)، لكن من غير المنطقي الدفاع عن (3) و (4) في الوقت نفسه! العامل المشترك بين (3) و(4) هو تشويه مفهوم «العلم الحديث»، ففي (3) هناك اختزال لنظريات رياضية في غاية التعقيد وجعلها مرادفة لقائمة من التلميحات المبهمة والتشبيهات المصطنعة! آلية التشويه في (4) يفوتها أمر مهم، فالعلم الحديث لا يستنكف من تصحيح نفسه بنفسه، فالحقائق الثابتة والمطلقة تتوافق مع العقلية الدينية التي تركن إلى الاطمئنان، ولا تتوافق مع العقلية العلمية التي تجنح إلى الشك و تقصي الحقائق.
طريق النهضة الحقيقية يبدأ من حيث انتهى تشويه بعضهم للمفاهيم الغربية، فنحن في حاجة ماسة إلى رفع الظلم عن هذه المفاهيم والتعامل معها بطريقة أكثر موضوعية. الليبرالية ليست انحلالاً أخلاقياً، بل حرية مسؤولة ترتقي بالفرد وبقدراته الذاتية، والعلمانية ليست كفرا أو إلحاداً، بل وسيلة لحفظ طهارة الدين من دنس السياسة، والديموقراطية ليست هبة الوالي لشعبه كلما احتاج إلى مشورة، بل حق للشعوب من دون منة، وحقوق الإنسان ليست قائمة من واجبات العبد تجاه ربه، بل هي إيمان أصيل برابط الإنسانية التي تجمعنا، والعلم الحديث لم يكن ثمرة تخمين النصوص المقدسة، بل هو ثمرة إعمال العقل الإنساني الخلاّق!

ليست هناك تعليقات: