لا أدري إن كان هناك استطلاع حول نوعية النقاشات التي تدور بين الناس في عالمنا العربي، و لكني أكاد أجزم أن نتيجة هذا الاستطلاع، إن وجد، ستشير إلى نسبة تفوق التسعين في المئة لصالح النقاشات الدينية والسياسية· إذا كان زعمي هذا صحيحا، فإن السؤال التالي يصبح منطقيا: لماذا؟ هناك إجابة مباشرة، لكن ليست بالضرورة صحيحة، وهي أن القضايا الدينية والسياسية تشكل محور اهتمام الإنسان العربي في وقتنا الراهن· هذه الإجابة تقوم على افتراض ضمني يشير إلى أن كل نقاش ديني أو سياسي لا بد أن يتناول قضية دينية أو سياسية، و لكن هل هذا الافتراض صحيح؟ عندما يحتدم النقاش الديني-السياسي حول مشروعية تنظيم مهرجان ترفيهي، فهل نحن أمام قضية دينية -سياسية أم قضية اجتماعية؟ عندما تصدر فتوى دينية حول عمليات الاستنساخ أو عقار طبي، فهل نحن أمام قضية دينية - سياسية أم قضية علمية؟ سوف أذهب إلى أبعد من ذلك و أطرح السؤال التالي: عندما يدور النقاش حول النفاق الاجتماعي أو السرقة أو الأنانية، فهل نحن أمام قضية دينية صرفة أم قضية أخلاقية بالأساس؟
قد يعترض القارئ قائلا: الدين يتصف بالشمولية، لذا فمن الطبيعي أن يتناول الدين جميع هذه القضايا المختلفة! حسنا، سأقبل هذا الاعتراض، لكن علينا أن نتذكر أن هناك فرقاً كبيراً بين حق الدين في تناول جميع هذه القضايا و بين حصر النقاش في ظل الإطار الديني! ما يحدث حاليا هو أنه مهما كان نوع القضية أو المشكلة فإنها عادة ما تناقش بالطرق الدينية ويصدر الأمر بحلها عن طريق قرار سياسي! من حق الناس سماع رأي الدين في قضية معينة، حتى لو لم تكن متصلة بالدين بشكل مباشر، لكن من حقهم أيضا سماع آراء علماء متخصصين في قضايا تصب في صلب مجالاتهم· هنا قد يعترض القارئ مرة أخرى ليتساءل: و ما الذي يمنع هؤلاء العلماء المتخصصين من إبداء آرائهم؟ هناك أسباب عديدة، لكني سأقتصر على ذكر ثلاثة فقط·
أغلب العلماء المتخصصين في عالمنا العربي ينتمون إلى دين المجتمع الذي يعيشون فيه، و من بين الأمور التي يترتب عليها هذا الانتماء الأيديولوجي هو الإيمان اللانقدي بفكرة أن الرأي الديني هو الرأي القاطع والمرجع الأخير في أية قضية مهما كان جنسها· في هذه الحالة، و حتى لو لم يجد العالم المسلم المتخصص عائقا أمامه من إبداء رأيه، فإن هذا الرأي غالبا ما يأتي متوافقا مع الرأي الديني· أما إن ظن هذا العالم المتخصص أن رأيه قد يتعارض مع حقيقة دينية، فإنه عادة ما يتراجع مؤكدا على أن الرأي الأخير يعود "لأولي الأمر"! هناك حالات أخرى أكثر غرابة يتم فيها حشر الرأي الديني عنوة في مجالات علمية لا تشكل تهديدا عقائديا حقيقيا، و بإلامكان الاستدلال على وجود مثل هذه الحالات في برامج علمية بحتة أو في تلك الجملة المشهورة التي تختم بها نشرة الأحوال الجوية وصفها لحالة الطقس!
كي يبدي العلماء المتخصصون آراءهم في قضايا علمية تهم المجتمع، لا بد أولا من وجود جدل فكري داخل الأوساط العلمية ذاتها· سوف أعطي مثالا بسيطا يدل على غياب هذا النوع من النقاش الفكري داخل الوسط العلمي، فمن المعروف أن الأستاذ الفاضل صالح العجيري، المتخصص بعلم الفلك، يصدر سنويا تقويما يحمل اسمه، و من يقرأ هذا التقويم يجد فيه تنبؤات بحالة الطقس خلال سنة كاملة· من جانب آخر، دأبت وزارة التعليم العالي في الكويت على إرسال العديد من الشباب الكويتي لدراسة علم الأرصاد الجوية في أعرق الجامعات الأجنبية، و رغم ذلك، لم نسمع أو نقرأ عن نقاش أو حتى اعتراض على تقويم الأستاذ العجيري من الناحية العلمية، فالمعروف علميا أنه من الصعب التنبؤ بحالة الطقس لأكثر من خمسة أيام متتالية على أكثر تقدير، و من بين أسباب هذا القصور المعرفي يتعلق بنظرية "التبعثر"، إن صحت الترجمة، و فكرة العالم "لورينز" المشهورة عما يعرف بـ "أثر الفراشة"! من السهل أن نلتمس العذر للأستاذ العجيري إن لم يسمع بالعالم "لورينز" أو بنظرية التبعثر، لكن ما سبب هذا الصمت المخزي لكل تلك الأجيال المتعاقبة ممن درسوا علم الطقس الحديث؟
في مقابلة مع العالم الأمريكي "ستيفن واينبيرغ" ، الحاصل على جائزة نوبل في مجال الفيزياء النظرية، يذكر هذا العالم أن زميلا له متدين اسمه "عبدالسلام" ينتقل من أمريكا إلى العمل في إحدى الجامعات الخليجية، و في إحدى زياراته لأمريكا، يسأل "واينبيرغ" زميله عن تجربته في التدريس هناك، فيجيب "عبدالسلام" قائلا: لقد عانيت من مصاعب كثيرة مع إدارة الجامعة لنشر الأفكار العلمية بين الطلاب، فالناس هناك يعيشون في تناقض عجيب، فعلى الرغم من قابليتهم الشديدة لتقبل المنتوجات التكنولوجية، إلا أنهم لا يحبذون الخوض في الأفكار العلمية الفلسفية، ذلك أنهم يخشون أن تؤدي هذه الأفكار إلى زعزعة الثوابت الدينية!"·
التفكير اللانقدي، و غياب الجدل الفكري، و الخوف من المعرفة، كلها أسباب تضعف من أثر الرأي العلمي المتخصص على عقول الناس في المجتمعات العربية، هذا مع افتراض وجود هذا الأثر أساسا! عندما خرجت "نظرية الكم" الفيزيائية إلى الوجود في الربع الأول من القرن العشرين، أثارت هذه النظرية مشكلات فلسفية لها علاقة بجوهر الإنسان و مقدساته، و عندما أراد بعض العلماء الخوض بهذه المسائل التي تعنيهم، جاء رد "مدرسة كوبنهاجن" قاطعا و صارما: Shut up and calculate! ، في إشارة إلى أن ما يهم هو الحساب الرياضي لنتائج التجربة العلمية و ليس إيجاد تفسير لها!
في وقتنا الراهن، و في ظل هيمنة الخطاب الديني على مجالات الحياة في مجتمعاتنا العربية كافة، لا يسع حفنة من علمائنا المتخصصين سوى سماع نصيحة رجال الدين لهم: Shut up and pray!.
الأربعاء، 8 يوليو 2009
Shut up and pray!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق