الأربعاء، 29 يوليو 2009

سلطة المعرفة بين الكنيسة والعلم الحديث

في أواخر القرن العاشر، وقبل أن يعتلي كرسي البابوية، اشتهر البابا «سيلفزتير الثاني» بحبه الشديد لقراءة الكتب، وهي عادة اكتسبها خلال سنوات دراسته في جامعة قرطبة في بلاد الأندلس، وقد أدى هذا الشغف بالقراءة إلى اتهام أهل روما له بمزاولة السحر (هذا الاتهام مازال قائماً في وقتنا الحاضر، لكن التهمة تغيرت، فمن يقرأ كثيراً لا يعد ساحراً، بل «معقّد» فقط!). كانت مصادر المعرفة في عصور الظلام الأوروبية تقتصر على النصوص المقدسة، ولم يكن من حق أي إنسان ينتمي إلى الديانة المسيحية أن يلجأ إلى مصادر أخرى لطلب المعرفة، خصوصاً عندما تتعارض هذه المصادر مع تعاليم الكنيسة.
عندما تحدد الكنيسة لأتباعها ماذا يقرأون، فإن الخطوة المنطقية التالية هي حظر الكتب التي لا تتوافق مع تعاليم الكنيسة، وهذا ما حدث طوال فترة عصور الظلام في القارة الأوروبية! إذا كانت المعرفة تزيد من عدد الخيارت المتاحة، وإذا كان حظر الكتب يقلص من عدد هذه الخيارات، فإن المحصلة المنطقية هي أن حظر الكتب يزيد من نسبة الجهل! من جانب آخر، حظر الكتب يشير إلى تدخل سافر في حرية اختيار المادة المقروءة، لكن مفهوم «حرية الاختيار» لم يكن يشتمل على هذه الدلالة الإيجابية كما نعرفها الآن، بل على العكس من ذلك تماماً، فحرية الاختيار كانت تعني ببساطة «هرطقة»، والجدير بالذكر هنا هو أن أصل كلمة «هرطقة» أو Heresy يعود إلى اللغة الإغريقية، وتعني «فعل الاختيار» أو «القدرة على الاختيار»! من هنا نستنتج أن فكرة الخروج على تعاليم الدين (أي الهرطقة بمعناها السائد) يرجع أصلها إلى قدرة الإنسان على الاختيار، وملاحقة «المارقين» أو المنحرفين عن تعاليم الدين يدل على الرفض القاطع لحق الإنسان في أن يختار!
المعرفة سُلطة، كما يقول «فرانسيس بيكون»، وتحكّم الكنيسة في مصادر المعرفة فيه ضمان لسلطة الكنيسة على أتباعها، ذلك أن جهل المحكوم يزيد من فرصة بقاء الحاكم في السلطة! هناك فصل جميل في الرواية الشهيرة «الجريمة والعقاب» لدوستوفيسكي، وفيه يسرد الأخ الملحد «إيفان» على أخيه المؤمن «أليوشا» حكاية تدور أحداثها في مدينة إشبيلية، حيث يعود السيد المسيح من جديد ويتعرف عليه أهل المدينة من خلال أعماله الخارقة للطبيعة، لكن السيد المسيح اختار وقتاً غير مناسب لعودته، فالزمن هو زمن التشدد الديني ومحاكم التفتيش! بعد أن ذاع الخبر بين الناس، أصدر رئيس محاكم التفتيش أمراً بالقبض على السيد المسيح وإيداعه السجن! في جنح الظلام، يزور رئيس محاكم التفتيش السيد المسيح في زنزانته ليخبره أن الكنيسة لم تعد في حاجة إليه، وأن قرار عودته يعرقل المهمة الأساسية لرجال الدين! هذا المقطع من الرواية آية من آيات الأدب الإنساني، لكن ما يهمنا هنا هو معرفة مضمون هذه «المهمة الأساسية لرجال الدين»، وهذا ما نجده في خطاب رئيس محاكم التفتيش إلى السيد المسيح، حيث يقول: «لقد أنجزنا المهمة... فالناس تخلوا عن حريتهم طواعية ووضعوها تحت أقدامنا» (أي تحت أقدام رجال الدين)!
مع ظهور العلم الحديث في بدايات عصر النهضة، تقلص احتكار الكنيسة لمصادر المعرفة، لكن الصراع الفكري بين المسيحية والعلم الحديث بدأ منذ تلك اللحظة ومازال مستمرا بعد مرور خمسة قرون! في بداية هذا الصراع، كان العلم يداهن الكنيسة، فعلماء الفلك الكبار، مثل كوبرنيكوس وجاليليو، دأبوا على إهداء كتبهم العلمية إلى بابا الفاتيكان وكبار الأساقفة، طمعاً في إرضاء الكنيسة وخوفاً من سخطها! أما في وقتنا الحالي، فإن الكنيسة تبدو حريصة على مداهنة العلم الحديث، ففي أكتوبر من عام 1996، اعترف البابا الراحل «يوحنا بولس الثاني» بقوة الأدلة العلمية التي تستند إليها نظرية التطور من خلال خطاب ألقاه في الأكاديمية الأسقفية للعلوم في روما، كما حرص بابا الفاتيكان الحالي على إعادة الاعتبار إلى علم اللاهوت كعلم جدير بالدراسة والوقوف على قدم المساواة مع العلوم الطبيعية الحديثة، وذلك من خلال خطابه الشهير الذي أثار حفيظة المسلمين لأسباب لا تمت إلى العلم في صلة!
قرأت في أرشيف «الفاتيكان» دعوات متكررة من قبل هذه المؤسسة الدينية إلى خلق جيل جديد من الرهبان قادر على فهم الحقائق العلمية الحديثة ومحاولة اثبات أنها لا تتعارض مع تعاليم الدين المسيحي! مثل هذه الدعوات هي نتيجة طبيعية لهذا الصراع الطويل والمرير بين الكنيسة والعلم الحديث، فالديانة المسيحية تم تهذيبها طوال قرون عديدة من خلال أحداث تاريخية وثورات علمية متعاقبة، بدءاً بثورة لوثر داخل الكنيسة، مرورا بثورة كوبرنيكوس العلمية، وانتهاء بثورة داروين في أواسط القرن التاسع عشر. «لوثر» قضى على وساطة الكنيسة بين العبد والرب، و«كوبرنيكوس» أثبت خطأ فكرة أرسطو القائلة بمركزية الأرض، وهي الفكرة التي شكلت إحدى أهم دعائم الكنيسة طوال قرون عديدة، أما داروين فسحق فكرة الإنسان-الإله وأعاده إلى جذوره الطبيعية! تمكن العلم الحديث من انتزاع سلطة المعرفة تدريجياً من رجال الدين وسحب البساط من تحت الكنيسة، وقد أدى ذلك إلى «تهذيب» الدين المسيحي وجعله أكثر توافقا مع استحقاقات العصر الحديث! هل سيبقى الدين المسيحي على هذه الحال، أم أنه سيستجيب إلى دعوات الاستفزاز والعودة إلى عصور الظلام، «يوم سار الصليب وحاملوه، ومشى الغرب قومه والنساء»؟!

ليست هناك تعليقات: