طول اللسان يخفي قصور العقل، هذه حكمة صينية، أو ربما كانت هندية، بل لعلها تكون "من جيبي"، لكن المهم أني أريد من خلال هذا المقال أن أدلل على صحة هذه المقولة، فهناك مظاهر اجتماعية تشير إلى أن الصراخ أضحى أداة ناجحة لإقناع الآخرين، أما الحجة المنطقية فلا فائدة ترجى منها، فهذه الأخيرة تريد أرضا خصبة كي تنمو و تؤتي ثمارها، و هذا بالضبط ما يعوز المجتمع الذي نعيش فيه!
إذا أراد مدرس أن يبرهن لإدارة المدرسة على إخلاصه في العمل و نجاحه في تأدية واجب التدريس، فما عليه سوى أن يخضع أحباله الصوتية إلى جرعة زائدة من الزعيق، و أن لا ينسى ترك باب الفصل مفتوحا! هذا تكتيك يدركه كثير من المدرسين "المخلصين"، لكن ما لا يدركونه هو التالي: استراتيجية الزعيق ربما ضمنت تقدير "الامتياز" في سجل تقييم الأداء الوظيفي، لكنها تبعث برسالة خاطئة إلى ذهنية الطالب، و هي رسالة تفيد بأن الإقناع و توصيل المعلومة مرتبطان بالزعيق!
في خطبة الجمعة أيضا يلجأ معظم خطباء المساجد إلى استراتيجية الزعيق، و لست أجد مبررا منطقيا للصراخ في ظل وجود مكبرات للصوت، لكن يبدو أن اعتماد الأسلوب العاطفي كأداة إقناع يستدعي أن تكون نبرة الصوت عالية! هذه حقيقة يدركها معظم الأئمة "المتقين"، لكن ما لا يدركونه هو التالي: استراتيجية الزعيق ربما لامست القلوب و أبكت الأعين، لكنها تظل قاصرة في مخاطبة العقول، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الحجة الدينية لا تقوم على أساس منطقي!
الخطب السياسية لها نصيب الأسد في هذه الظاهرة الصوتية، و قد أثبتت استراتيجية الزعيق نجاحها في إقناع الرأي العام من خلال أرقام الانتخابات الأخيرة على وجه الخصوص، و ربما استطعنا التماس علاقة باتت راسخة في ذهنية أي مرشح، و هي علاقة تشير إلى أن فرصة الظفر بكرسي المجلس تتناسب طرديا مع درجة الزعيق! هذه علاقة يدركها معظم نواب مجلس الأمة، لكن ما لا يدركونه هو التالي: استراتيجية الزعيق ربما أوصلتهم إلى حيث يطمعون، لكنها تبعث برسالة مغلوطة إلى جيل كامل من الشباب المنخرط في العمل السياسي، و هي رسالة تشير إلى أن النجاح السياسي مرتبط بقوة الأحبال الصوتية ومتانتها!
ليست مصادفة أن لا تتمتع مادة "المنطق" باستقلالية ضمن مناهجنا الدراسية، أو أن لا تدرّس إلا في الفترة الأخيرة من المرحلة الثانوية، فما الحاجة إلى المنطق إذا كان الصراخ يؤدي إلى النتيجة المرجوّه؟! من المخجل حقا أن تختفي الحجة المنطقية حتى من حوارتنا ونقاشاتنا اليومية، لتحل مكانها ظواهر بدائية وطقوس دينية كالصراخ أو الحلف بأغلظ الأيمان أو الاستشهاد بالسلطة بجميع أشكالها كوسائل للإقناع! عندما تصرخ بأعلى صوتك، أو تقسم بمقدساتك، أو تستشهد بعبارة "أبي قال ذلك" أو "الشيخ أفتى بذلك" أو "الحكومة أكدت على ذلك"، فأنت باختصار لا تقنع! كي تقنع عليك أن تبين أن رأيك يستند إلى أسباب أولية، إن صحت صحّ رأيك، و إن بطلت بطل! الإقناع مرتبط فقط بنشاط خلايا الدماغ، و لا علاقة له بالأوتار الصوتية!
أخيرا، الاهتمام بعلم المنطق ممكن فقط في ظل مجتمع يحترم العقل ويدرك قيمته، أما في مجتمعات الزعيق فإن النجاح في إقناع الآخرين يكون على قدر الصراخ!
الأربعاء، 8 يوليو 2009
النجاح على قدر الصراخ!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق