مدينة "ستراسبورغ" الفرنسية، ميدان "غوتينبرج"، محل بيع الزهور!
- "أي أنواع الزهور تريد، سيدي؟"
- "أريد أطول الزهور عمرا !"
- "تلك الزهور الصفراء على يمينك تدوم مدة ثلاثة أسابيع"
- "ثلاثة أسابيع فقط؟!"
لماذا لا يكون جمال الأشياء سببا كافيا لمنحها فترة بقاء أطول؟ لماذا لا يعد جمال الروح شفيعا لدى "عزرائيل" لتأجيل المهمة الحتمية حتى إشعار آخر؟! كيف يختفي "الجميل" بهذه السرعة، و بهذه البساطة؟ أنا أسجل اعتراضي، ليس على فكرة الموت، بل على هذه الانتقائية غير المنطقية في اختيار من يرحل أولا!
"لماذا أنت بالذات؟!"، طرحت هذا السؤال على "مبارك" مرتين: قبل سنوات في مستشفى "ستراسبورغ"، و قبل شهرين في "حسين مكي"! أجابني ضاحكا (نعم، مبارك كان قادرا على الضحك حتى في أحلك الظروف و أقساها!):
- "لاحظ أن السؤال لن يختفي لو كنت أنت مكاني!"
بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الحقوق من جامعة الكويت، التحق "مبارك" في بعثة دراسية لإكمال دراسته العليا في القانون في فرنسا، و بالرغم من وضوح الخطة الطموح التي رسمها لحياته، كان القدر يرسم له خطة من نوع آخر!
على الرغم من كثرة الشبان "العاديين" في أيامنا هذه، مبارك لم يكن أبدا شابا عاديا! لم يمنعه تخصصه في القانون من قراءة كتب "هيدجر" و "شوبنهاور" و "نيتشه"، و كم كان يمنّي نفسه بترجمة بعض الأعمال الغربية المهمة إلى اللغة العربية! لم تكن الحضارة الغربية بصورتها السطحية تبهره كما بهرت الكثيرين من أبناء جيله، بل كان يبحث عن أسباب نجاح هذه الحضارة في جذور التاريخ!
في آخر محادثة بيننا، كان يقول لي مبتسما: "صدقني يا فهد، نحن عبيد الرغبة، الرغبة في كل شيء أو أي شيء، و متى استطعنا أن نقتل هذه الرغبة، تصبح فكرة الخوف من الموت سخيفة و مبتذلة! يجب أن يكون شعارنا: الرغبة تساوي صفرا!" نعم يا مبارك، يبدو أن ضريبة الاستمتاع بالحياة هي مواجهة الخوف من الموت، و كم كنت شجاعا يا مبارك في مواجهة الموت!
دخلت إلى غرفتك في المستشفى أريد وداعك قبل اللحاق بطائرتي، وجدتك نائما، لم أشأ إيقاظك، وقفت أنظر إليك مدة ربع ساعة، و طافت في بالي كل الذكريات، كل النقاشات، كل المزاح البريء و الذكي أيضا! ثم خرجت من عندك دون أن ألتفت ورائي مرة أخرى! بعد مرور شهر، وصلتني رسالة قصيرة جدا على هاتفي النقال: "مبارك توفي!"
- "8" يورو لو سمحت، ثمن باقة الزهور!"
دفعت و خرجت، أحمل بين يدي باقة من الزهور ستذبل وتموت بعد ثلاثة أسابيع فقط! هل تدرك الزهور هذه الحقيقة؟!
رحمك الله يا مبارك، و ألهم أهلك و أحبابك الصبر والسلوان·
الأربعاء، 8 يوليو 2009
وداعا...مبارك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق