الأربعاء، 8 يوليو 2009

ما وراء الفتوى...


يحلو لكثير من الكتاب و الباحثين أن يشبّهوا وضعنا الفكري الراهن في العالم العربي بالوضع الذي كانت عليه أوروبا خلال فترة القرون الوسطى، ومع الاعتراف بوجود نقاط اختلاف بين الحالتين، فإن هناك فعلا نقاط تشابه إلى حد كبير
في كل مرة ينتشر فيها خبر سخيف وسطحي في وسائل الإعلام العربية، تأتي ردود الفعل من جنس الخبر، سخيفة و سطحية، و الفتوى المتعلقة بإرضاع الكبير خير مثال على ذلك. لا تعنيني تفاصيل تلك الفتوى بقدر ما تعنيني الطريقة التي تم من خلالها حسم الأمور وحل المشكلة. أريد من خلال هذا المقال أن أقارن بين طريقتين في حل المشكلات المتعلقة بالرأي؛ أولاهما دينية، وثانيهما علمية.
بمجرد أن أعلن رأيه في موضوع إرضاع الكبير، تعرض الدكتور عزت عطية إلى حرب شعواء من قبل رجال الأزهر والبرلمان والصحافة والشارع العربي بشكل عام، ثم جاء التهديد بالفصل من العمل والإحالة إلى مجلس تأديبي، والنتيجة كانت أن تراجع الدكتور عن رأيه مع اعتذار خطي عن فتوى «تخالف جمهور العلماء»! مرة أخرى، لا تهمني فحوى تلك الفتوى، فقائمة الفتاوى السخيفة طويلة، لكن يجب أن نتوقف عند الكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع رأي ديني مخالف. الرأي الديني الذي يخرج عن «إجماع العلماء» يكون مصيره القمع والاستئصال، ذلك أن النزاع الديني لا يمكن حله إلا على أرض المعركة، وتاريخ الحروب الدينية خير شاهد على هذه الحقيقة! العقلية الدينية لا تهتم بالحجة المنطقية، فاستخدام رجل الدين لعقله ينحصر في قياس حالة حديثة على حالة قديمة، ولو كانت قوانين المنطق هي الحَكَم في الخلاف الديني لما احتاج الدكتور عطية إلى كل هذا الهجوم العنيف لإرغامه على العدول عن رأيه، فالجميل بعلم المنطق أن أي إنسان يحترم عقله لا بد أن يحترم أيضا قوانين المنطق. لو قال لي القاريء، مثلا، «كل العرب أناس رجعيون»، و «كاتب هذه السطور عربي»، ثم قبلت أنا بصحة هاتين الجملتين، فسأكون مرغماً عندئذ على قبول صحة الاستنتاج المنبثق عنهما، و هو «أني إنسان رجعي»! ليس من بين قوانين المنطق شرط الالتزام برأي الأغلبية أو «إجماع العلماء»، فالحجة المنطقية قائمة بذاتها ولا تعتمد على عدد الأشخاص!
لكن ثمة سؤال جوهري: هل كل خلاف حول مسألة دينية يمكن حله عن طريق علم المنطق؟ الجواب يعتمد على مدى قدرتنا على إجراء اختبار مادي لتحديد صحة الفرضيات الدينية. ونظرا لأن أغلب هذه الفرضيات لا يمكن إخضاعها لشروط التجربة العلمية، فإن استفادة الدين من علم المنطق تكاد تكون منعدمة! الأمر يختلف تماما في حالة العلوم الطبيعية، فعلم الفيزياء، مثلاً، قادر على ترجمة مقولات منطقية مجردة إلى مقولات مادية محددة يمكن اختبار صحتها عن طريق التجربة العلمية، وهذا يعني أن الخلاف حول مسألة علمية لا يتم تسويته على أرض المعركة، بل في داخل مختبر! إثبات صحة نظرية آينشتين جاء مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، وهي حرب كانت فيها ألمانيا تقف في طرف وبريطانيا في طرف آخر، وبرغم ذلك لم تمنع هوية آينشتين الألمانية إثبات النظرية النسبية على يد عالم بريطاني! العلم يتسم بالموضوعية ويحترم الدليل المادي مهما كان مصدره ومهما كانت نتائجه، وهذا بالضبط ما تفتقر إليه العقلية الدينية!
يحلو لكثير من الكتاب و الباحثين أن يشبّهوا وضعنا الفكري الراهن في العالم العربي بالوضع الذي كانت عليه أوروبا خلال فترة القرون الوسطى، ومع الاعتراف بوجود نقاط اختلاف بين الحالتين، فإن هناك فعلا نقاط تشابه إلى حد كبير. لعل أبرز أوجه التشابه هنا، هو الاعتماد على النصوص الدينية كمرجعية أساسية لتنظيم شؤون الإنسان وإقصاء العقل كمرجع ثانوي! رجال الدين المسلمون اليوم أشبه بالمَدرَسيين المسيحيين أثناء عصر الظلمات، كلا الفريقين يرتكز على نصوص دينية لإثبات كل شيء يتماشى مع الحقيقة الدينية وإنكار كل شيء يتعارض معها! في الموسوعة البريطانية نجد الحكاية الطريفة التالية: عندما فرغ «هيغل» من شرح الفلسفة اليونانية القديمة وشرع يتحدث عن الفلسفة المدرسية المسيحية، قال: «كم أتمنى أن ألبس حذاء طوله سبعة فراسخ كي أتجاوز بسرعة حقبة مظلمة تمتد إلى أكثر من ألف سنة»! وعندما وصل «هيغل» أخيراً إلى شرح فلسفة «ديكارت» قال: «الآن بإمكاني أن أصيح بأعلى صوتي (يابسة)، كبحّار عثر أخيرا على مأوى يحميه من بحر الظلمات»!
أما نحن فما زالت أمواج بحر الظلمات تكسر مجاديفنا الرقيقة بفتاوى سخيفة، و أما اليابسة فبعيدة... بعيدة جدا!

ليست هناك تعليقات: